فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{الحاقة} أي الساعة أو الحالة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وغيره وإسناد الفعل لها على وجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي (الكشف) كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الحاقة القيامة من حاقته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفه للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم وقيل أنها على ما روي عن ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة {ما الحاقة} على أن مبتدأ و{الحاقة} خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها وقوله تعالى: {وما الحاقة ما الحاقة} أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الاستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الابتداء وإدراك خبره ولا مساغ هاهنا للعكس وما الحاقة جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا أن أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى: {ولا أدْراكُمْ بِهِ} [يونس: 16] فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني {ما أدْراك} إلخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى.
{كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بالقارعة} بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام أثر تقريراته.
ما أدراه صلى الله عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وما أدراك ما الحاقة كذبت بها ثمود وعاد فاهلكوا. {فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُواْ} أي أهلكهم الله تعالى وقرأ زيد بن علي {فهلكوا} بالبناء للفاعل {بالطاغية} أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في هود {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود: 67] وبها فسرت {الصاعقة} في حم السجدة أو {الرجفة} لقوله سبحانه في الأعراف: {فأخذتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] وفي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروى عن قتادة قال أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى: {كذبت ثمود بطغواها} [الشمس: 11] والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى: {وأمّا عادٌ فأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صرْصرٍ} وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلي لم يكن طباق إذا جاز أن يكون هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها وبين بريح لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح وكذا قوله تعالى: {عاتِيةٍ} أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون ومنه يعلم الفرق بين الوجهين وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال لم تنزل قطرة إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء} [الحاقة: 11] ولم ينزل شيء من الريح إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بريح صرصر عاتية عتت على الخزان وفي (صحيحي البخاري ومسلم) وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير ما ثُور وقد حكى ذلك في (الكشاف) ثم قال ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها وخرج ذلك في (الكشف) على الاستعارة التمثيلية ثم قال إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال أنه كناية عنه كما فيما نحن فيه وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة وقوله تعالى: {سخّرها عليْهِمْ} إلخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتلئ ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى ويسمى العاصف نحو سبعة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى {سخرها عليهم} سلطها عز وجل بقدرته عليهم {سبْع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حُسُوما} أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها أبو صفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤمات كما قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول {حسوما} محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد وقال الراغب الحسم أزال أثر الشيء يقال قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحسوما في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم وأيدت المصدرية بقراءة السدي {حسوما} بفتح الحاء على أنه حال من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وإنما سميت أيام العجوز لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفئ الجمر ومطفئ الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار {فترى القوم} أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي {فِيها} أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر {صرعى} أي هلكى جمع صريع {كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ} أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك {أعجز} على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرئ {نخيل} بالياء {خاوِيةٍ} خلت أجوافها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر فذلك قوله تعالى: {فهلْ ترى لهُم مّن باقِيةٍ} أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث.
وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الحاقة} صيغة فاعِل من: حقّ الشِيء إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الحاقة} وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قُطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعْلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضربة لازِب.
فالحاقة إذْن بمعنى الحق كما يقال (مِن حاقِّ كذا)، أي من حقه.
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي، أي حادثة تحق أو حقٌّ يحق.
ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك (يوم القيامة) لأنه يوم محقق وقوعُه، كما قال تعالى: {وتنذِر يوم الجمع لا ريب فيه} [الشورى: 7]، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع الجزاء عليها،، قال تعالى: {ولا تُظلمون فتيلا} [النساء: 49] وقال: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 78].
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإِيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.
فيجوز أيضا أن تكون {الحاقة} وصفا لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرّض بهم مثل يوم بدر أو وقعتِه وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفا للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {كذلك حقّت كلمات ربّك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} [غافر: 6]، أو التي حقّت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ينصره الله، قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتولّ عنهم حتى حين} [الصافات: 171: 174].
ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} [الأنبياء: 97]، أو وصفا للقرآن كقوله: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62]، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية: 29] وقال: {إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق} [الأحقاف: 30].
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.
و{الحاقّة} مبتدأ و{ما} مبتدأ ثان.
و{الحاقّة} المذكورة ثانيا خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
و{ما} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدْري ما الحاقة؟ أي ما هي الحاقة، أيْ شيءٌ عظيم الحاقّةُ.
وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها.
وهو من الإِظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الاسم من التهويل.
ونظيره في ذلك قوله تعالى: {وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين} [الواقعة: 27].
وجملة {وما أدراك ما الحاقّة} يجوز أن تكون معترضة بين جملة {ما الحاقّة} وجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4]، والواو اعتراضية.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {ما الحاقة}.
و{ما} الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنّى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقّة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يُتساءل عن فهمه.
والخطابُ في قوله: {وما أدراك} لغير معيّن.
والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كُنْههُ.
وتركيب (ما أدراك كذا) مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلم وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو (درى) مفعولا أول بسبب التعدية.
وقد علق فعل {أدراك} عن نصب مفعولين بـ {ما} الاستفهامية الثانية في قوله: {ما الحاقّة} وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركْتُ الحاقّة أمرا عظيما، ثم صار أدْركني فلان الحاقّة أمرا عظيما.
و{ما} الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين.
ولك أن تجعل الاستفهام إنكاريا، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.
والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.
هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان.
و{ما} الثالثة علقت فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين.
وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.
واستعمال {ما أدراك} غير استعمال {ما يدريك} في قوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} [الأحزاب: 63] وقوله: {وما يدريك لعل الساعة قريب} في سورة [الشورى: 17].
روي عن ابن عباس: كل شيء من القرآن من قوله: {ما أدراك} فقد أدراه وكل شيء من قوله: {وما يدريك} فقد طُوي عنه.
وقد روي هذا أيضا عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بين سلاّم فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول {ما أدراك} محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول {ما يدريك} غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإِنكار وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب: كل موضع ذُكر في القرآن {وما أدراك} فقد عقب ببيانه نحو {وما أدراك ماهيه نار حامية} [القارعة: 10 11]، {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 2 3]، {ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} [الانفطار: 18 19]، {وما أدراك ما الحاقّة كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 3 4]، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
ولم أر من اللغويين من وفّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلا.
{كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بِالْقارِعةِ (4)}
إن جعلت قوله: {وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3] نهاية كلام فموقع قوله: {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وما اتصل به استئناف، وهو تذكير بما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليهم مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله {الحاقّة} [الحاقة: 1] إلخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.
وإن جعلت الكلام متصلا بجملة {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} وعيّنت لفظ {الحاقّة} [الحاقة: 1] ليوم القيامة وكانت هذه الجملة خبرا ثالثا عن {الحاقّة} [الحاقة: 1].
والمعنى: الحاقة كذبت بها ثمود وعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير {الحاقّة} [الحاقة: 1] فيقال: كذبت ثمودُ وعادٌ بها، فعدل إلى إظهار اسم (القارعة) لأن (القارعة) مرادفة الحاقة في أحد محملي لفظ {الحاقة} [الحاقة: 1]، وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله: {وما أدراك ما الحاقّة} [الحاقة: 3].
و(القارعة) مراد منها ما أريد بـ {الحاقّة} [الحاقة: 1].
وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا.
والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضربا قويا، يقال: قرع البعير.
وقالوا: العبد يقرع بالعصا، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارع لما فيها من زجر الناس عن أعمال.
وفي المقامة الأولى (ويقْرع الأسماع بزواجر وعِظه)، ويقال للتوبيخ تقريع، وفي المثل (لا تُقرع له العصا ولا يُقلقل له الحصا)، ومورده في عامر بن الظرب العدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت.
ف (القارعة) هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثا ليوافق وصفه المذكور نحو الساعة أو القيامة.
القارعةِ: أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع، أو التي تصيب الموجودات بالقرع مثل دك الجبال، وخسف الأرض، وطمس النجوم، وكسوف الشمس كسوفا لا انجلاء له، فشبه ذلك بالقرع.
ووصف {الساعة} [الأعراف: 187] أو {القيامة} [البقرة: 85] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأوُّلٍ لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى: {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 14].
وهي ما سيأتي بيانها في قوله: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدة} الآيات [الحاقة: 13].
وجيء في الخبر عن هاتين الأمتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعتا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.
{فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطّاغِيةِ (5)}
ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصيحة.
والطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم، لأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: 52]، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضا.
وإنما سميت الصاعقةُ أو الصيحة {بالطاغية} لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش.
والباء في قوله: {بالطاغية} للاستعانة.
و{ثمود}: أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد.
وثمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب على الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحا} في سورة الأعراف (73).
{وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ (6)}
الصرصر: الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} في سورة فصلت (16).
والعاتية: الشديدة العصف، وأصل العُتُوِّ والعُتِيِّ: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوزِ الحدّ المعتاد تشبيها بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.
والتسخير: الغصْب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكوينا متجاوزا المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه.
وعلق به {عليهم} لأنه ضمن معنى أرسلها.
و(حسوم) يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قُعود جمع قاعد، وشهود جمع شاهد، غُلِّب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عددا إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان:
أحدها أن يكون المعنى: يتابع بعضها بعضا، أي لا فصل بينها كما يقال: صيام شهرين متتابعين، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرّق بين بينِهمُ زمانٌ ** تتابع فيه أعوام حُسُومٌ

قيل: والحسوم مشتق من حسْم الداءِ بالمكواة إذ يكوى ويُتابع الكي أيّاما، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإِسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن.
المعنى الثاني: أن يكون من الحسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة.
ومنه سمي السيف حُساما لأنه يقطع، أي حسمتْهم فلم تُبققِ منهم أحدا، وعلى هذين المعنيين فهو صفة ل {سبع ليال وثمانية أيّام} أو حال منها.
المعنى الثالث: أن يكون حسوم مصدرا كالشُكور والدخُول فينتصب على المفعول لأجله وعاملُه {سخّرها} أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم.
وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه.
وقد سمّى أصحاب المِيقات من المسلمين أياما ثمانية منصّفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالبا، أيام الحُسوم على وجه التشبيه، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح، وهو من الأوهام، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام.
ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها: أيامُ العجُوز أو العجُز، وهي آخر فصل الشتاء ويُعدها العرب خمسة أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة، وشتان بينها وبين حُسوم عاد في العِدة والمُدة.
وفرع على {سخرها عليهم} أنهم صاروا صرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضرا تلك الحالة.
والخطاب في قوله: {فترى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راءٍ، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويُتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مُهْلكهم أو شاهدهم بعده، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية، فيعتبر خطابا فرضيا فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين، وقريب منه قوله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل} [الشورى: 45]، وقوله: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيما وملكا كبيرا} [الإنسان: 20]، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي.
والتعريف في {القوم} للعهد الذِّكري، والقوم: القبيلة وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة.
وضمير {فيها} عائد إلى الليالي والأيام.
و{صرعى}: جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتا.
وشُبهوا بأعجاز نخل، أي أصول النخل، وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها.
ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسُقُف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عمدا وأساطين.
والنخل: اسمُ جمععِ نخلة.
والخاوي: الخالي مما كان مالئا له وحالا فيه.
وقوله: {خاويةٍ} مجرور باتفاق القراء، فتعين أن يكون صفة {نخل}.
ووصفُ {نخل} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم (النخل) على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة، ففيه استخدام.
والمعنى: خالية من الناس، وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية، فإن لهذا الوصف وقعا في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها، ومنه قول كعب بن زهير:
لذاك أهْيبُ عندي إذْ أُكلمه ** وقيل إنّك منسُوبٌ ومسْؤول

مِن خادرٍ من لُيُوثثِ الأسْدِ مسكنه ** من بطْن عثّر غِيلٌ دونهُ غِيل

الأبيات الأربعة، وقول عنترة:
فتركتُه جزر السباعِ ينُشْنه ** يقضِمْن حُسن بنانِه والمعصم

{فهلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيةٍ (8)}
تفريع على مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكة لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وأنه أهلك عادا الأولى وثمودا فما أبقى} [النجم: 5051] أي فما أبقاهما.
والخطاب لغير معين.
والباقية: إما اسم فاعل على بابه، والهاء: إما للتأنيث بتأويل نفس، أي فما ترى منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة، أي ما ترى فرقة منهم باقية.
ويجوز أن تكون {باقية} مصدرا على وزن فاعلة مثل ما تقدم في الحاقة، أي فما ترى لهم بقاء، أي هلكوا عن بكرة أبيهم.
واللام في قوله: {لهم} يجوز أن تجعل لشبه الملك، أي باقية لأجل النفع.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى (مِن) مثل قولهم: سمعت له صراخا، وقول الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ** كما استعان بريح عِشْرقٌ زجِلُ

وقول جرير:
ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أي ونحن منكم أفضل.
ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإِضافة إذا لم تكن الإِضافة على معنى (من).
والأصل: فهل ترى باقيتهم، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب (مِن) الزائدة لزم تنكير مدخول (من) الزائدة فأعطي حقُّ معنى الإِضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عبادا لنا} [الإسراء: 5] فإن أصله: عبادنا.
وموقع المجرور باللام في موقع النعت لـ {باقية} قُدم عليها فصار حالا. اهـ.